بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر على نيويورك وواشنطن والتي أودت بحياة ثلاثة آلاف شخص، قرر الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش وإدارته شن حرب مقدسة على الإرهاب،
وأقنعا الأمريكيين بضرورة إعطاء بطاقة بيضاء لوكالة الاستخبارات الأمريكية من أجل ملاحقة «أعداء أمريكا» حول العالم.
وهكذا لم تبخل الإدارة الأمريكية على أجهزة الاستخبارات من الناحية المادية ومدتها بملايير الدولارات من أجل تجنيد الجواسيس في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ووسط آسيا، بالإضافة إلى مختلف مناطق العالم، كما سيّجتها بترسانة قانونية صلبة سمحت لها بإبقاء أنشطتها بعيدا عن أعين الشعب وأجهزة الرقابة. لكن، وبعد مرور نحو عشر سنوات على الهجمات، كشف تحقيق صحفي لجريدة «واشنطن بوست» أن الحرب على الإرهاب ترهلت وأن الإدارات والمنظمات المسؤولة عن هذا الملف تناسلت وتشابكت خيوطها وتداخلت تخصصاتها بشكل بات يهدد أمن الولايات المتحدة بشكل خطير.
«أنت تعتقد بأنك تعرف أمريكا، لكنك لا تعرف العالم السري لأمريكا. بالنسبة للجميع هناك ثلاثة فروع رئيسية للسلطة في أمريكا تتوزع بين البيت الأبيض والكونغرس والمحكمة العليا، لكن بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر ظهر فرع رابع ولكنه ظل سريا للغاية وبعيدا عن أعين الشعب الأمريكي ورقابته.. إنه العالم السري الجديد للمخابرات». بهذه المقدمة المصورة بالفيديو يستقبلك موقع صحيفة «واشنطن بوست» قبل أن يسمح لك بالدخول إلى مواد التحقيق المطول الذي أجراه الصحفيان «وليام أركن» و«دانا بريست» اللذان قضيا سنتين كاملتين في دواليب أجهزة الاستخبارات الأمريكية من أجل محاولة فهم كيفية عملها وحصر مكاتبها وعدد الشركات الخاصة التي تتعاقد معها. لكن الصحفيين أكدا، في مقابلات صحفية متعددة بعد نشر التحقيق، أنهما أصيبا بصدمة مريعة بعدما اطلعا عن قرب على الترهل الكبير الذي باتت تعاني منه أجهزة الاستخبارات الأمريكية ومن تداخل تخصصات الإدارات الحكومية المسؤولة عن قطاع الأمن القومي مع الشركات الخاصة التي تم إنشاؤها على مقاس متطلبات وزارة الدفاع «البنتاغون» والتي تناسلت بدورها وفاق عددها عشرات المئات.
75 مليار دولار للجواسيس!
بعد مرور تسعة أيام على هجمات نيويورك وواشنطن، وبعدما استفاقت أمريكا من هول الصدمة واستوعبت جيدا ما وقع، اجتمع جنرالات البنتاغون بصقور الإدارة الأمريكية السابقة واتخذوا قرارا بتخصيص 40 مليار دولار بشكل عاجل لوكالة الاستخبارات الأمريكية من أجل مساعدتها على الدخول في حرب وصفوها بالمقدسة ضد أعضاء تنظيم «القاعدة» والإرهابيين حول العالم. هذا المبلغ الكبير جاء إضافة إلى الميزانية الفيدرالية المخصصة عادة للدفاعات الداخلية.
بعد مرور سنة واحدة فقط، أي خلال سنة 2002، عمدت الإدارة الأمريكية السابقة إلى إضافة مبلغ 36.5 مليار دولار ورفعته إلى 44 مليار دولار سنة 2003، واستمرت الزيادات الضخمة في ميزانية وكالة الاستخبارات الأمريكية حتى اليوم وباتت توازي 75 مليارا سنويا تذهب لتطوير قدرات الجواسيس والصرف على العمليات بالغة السرية التي ينفذونها حول العالم لصالح الإدارة الأمريكية.
وبسبب هذا التدفق غير المسبوق للسيولة المالية، عمدت وكالة الاستخبارات إلى تأسيس وكالات مختلفة للأمن القومي ومكافحة الإرهاب وتدريب الجواسيس واستقطابهم وجمع المعلومات، حيث أسست الوكالة 24 مؤسسة جديدة نهاية سنة 2002 و36 خلال سنة 2003 وأكثر من 26 مؤسسة جديدة في مجال مكافحة الإرهاب سنة 2004 و31 مؤسسة سنة 2007 و32 سنة 2008 و20 مؤسسة جديدة سنة 2009. ويقول خبراء في مجال الاستخبارات إن عدد المؤسسات التي تعمل في مجال التجسس وجمع المعلومات ومكافحة الإرهاب وصل حاليا إلى 263 مؤسسة، وجميعها تقريبا تبحث بشكل يائس عن أشخاص من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ووسط آسيا يتحدثون اللغات المحلية لسكان تلك المناطق ويفهمون ثقافتهم من أجل تحليل ملايين الوثائق والشرائط الصوتية التي تم جمعها خلال سنوات الحرب على الإرهاب مقابل أجور خيالية تصل أحيانا إلى 250 ألف دولار في السنة!
كما أكد خبراء عسكريون أن مبلغ 75 مليارا المخصص لوكالة الاستخبارات الأمريكية سيستمر في الارتفاع، لأن أسباب الحرب على الإرهاب مازالت قائمة ويعطون كأدلة على كلامهم الهجمات الفاشلة التي تعرضت لها أمريكا خلال الشهور والسنوات الأخيرة. ويقول هؤلاء الخبراء إن النصيب الأكبر من هذه الميزانية الضخمة سيخصص لتمويل أعمال التجسس وجمع وتحليل المعلومات واستقطاب وتدريب الجواسيس ومراقبة الأشخاص المشتبه في ضلوعهم في أعمال معادية لمصالح الولايات المتحدة حول العالم.
تضخم وبيروقراطية
الحاجة إلى مثل هذه العمليات التجسسية عالية التقنية والكلفة خلقت نوعا من الهاجس لدى المسؤولين في الإدارة الأمريكية، مفاده أن مطاردة ومراقبة الإرهابيين و«أعداء أمريكا» حول العالم تتطلب المزيد من الأموال والأشخاص المؤهلين، وهكذا تم فتح الباب أمام القطاع الخاص من أجل المساعدة على الانتصار في الحرب الأمريكية على الإرهاب. وبسبب هذا القرار تناسلت عشرات المئات من الشركات الخاصة العاملة في مجال توفير الأمن الخاص وتقصي المعلومات وتحليلها حتى بلغ عددها 1931 شركة خاصة حاليا، أشهرها على الإطلاق شركة «بلاكوُوتر» التي تورطت في عمليات قتل وتصفية لمدنيين عراقيين في العاصمة بغداد وأنحاء متفرقة من البلاد.
لكن توفير الحماية للمواكب الرسمية والشخصيات السياسية والدبلوماسية ليست هي المهمة الوحيدة لهذه الشركة وغيرها من الشركات التي استفادت من فورة الحرب على الإرهاب والحماس الزائد الذي عبرت عنه الإدارة الأمريكية في هذا الشأن، فتنظيم عمليات تجسس بشكل واسع واستقطاب العملاء وتهريب الوثائق السرية وشراء ذمم المسؤولين الحكوميين في مناطق الصراع.. كلها أمور تدخل ضمن صميم عمل هذه الشركات التي باتت تنافس أجهزة الحكومة الرسمية في هذا المجال، وبات عدد العاملين لديها يفوق 250 ألف متعاقد مع الحكومة الأمريكية، وهو جيش سري لا يعرف عنه دافعو الضرائب الشيء الكثير ويتمتع بصلاحيات واسعة تمكنه من القيام بأمور خارجة عن القانون فوق أراض أجنبية.
ومن أبرز الأعمال التي قام بها المتعاقدون أو «الكونتاكترز» لصالح الحكومة الأمريكية هو قيامهم بخطف شخص مطلوب للاستخبارات الأمريكية من شوارع إيطاليا، كما شاركوا في عمليات استجواب معتقلين كانوا محتجزين في سجون سرية في خارج الولايات المتحدة ووفروا الحماية لمنشقين كانوا مختبئين في ضواحي واشنطن، كما يعكفون حاليا على تدريب وتشكيل جيل جديد من الجواسيس الأمريكيين وتعليمهم «أصول الحرفة».
وصرح مدير الاستخبارات الأمريكية ليون بانيتا لصحيفة «واشنطن بوست» بأن الوكالة تعتزم استبدال «جيش» المتعاقدين الذين يقومون بالعمل الميداني الذي كان ينبغي أن يقوم به الموظفون الدائمون في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. لكن رئيس جواسيس أمريكا أكد أن عملية استبدال هذا «الجيش» من الأشخاص لن تحدث بين عشية وضحاها، خصوصا وأن الوكالة اعتمدت عليهم لفترة طويلة وعليها أن تستفيد من الخبرة التي اكتسبوها خلال سنوات عملهم الطويلة. وأورد تحقيق «واشنطن بوست» أن عدد الأشخاص الذين يحملون تصاريح أمنية بالغة السرية أو ما يسمى في أمريكا بـ«توب سيكرت سيكيوريتي كليرنس»، تمكنهم من ولوج الأماكن بالغة السرية والاطلاع على وثائق وتقارير سرية، وصل حاليا إلى 854 ألفا، أكثر من 250 ألفا منهم يعملون لصالح القطاع الخاص وليس لصالح وكالات فيدرالية حكومية.
جواسيس وراء الأسوار العالية
في حي راق يقع على حدود مدينة «ماكلين» في ولاية فرجينيا، يقع المبنى الرئيسي لوكالة الاستخبارات الأمريكية الذي يسمى «لانغلي» نسبة إلى اسم المنطقة التي يقع فيها وهي منطقة محظور الاقتراب منها وكل من أضاع طريقه ووصل إلى هذه البقعة المختفية وراء أحراش كثيفة وأشجار باسقة، يفاجأ بعدد من الجنود الملثمين الذين يخرجون من خلف الأشجار شاهرين أسلحة رشاشة ومتحفزين لإطلاق النار.
موقع وكالة الاستخبارات غير موجود على الخريطة ولا يمكن العثور عليه عبر خدمة «غوغل ماب» وهو ضخم للغاية يستوعب يوميا أكثر من 1700 موظف فيدرالي و1200 متعاقد خاص يعملون فيه وفي «ليبرتي كروسينغ»، اللقب الرسمي لمقر الاستخبارات الوطنية ومركز مكافحة الإرهاب، والاثنان يحظيان بحماية قوات متعددة من أفراد الشرطة وعدد كبير من كلاب الحراسة والآلاف من المساحات المخصصة الشاسعة المكشوفة والمراقبة بشكل دقيق للغاية.
ولا تشير أي من إشارات المرور المعلقة في الشوارع المؤدية إلى مبنى الاستخبارات الأمريكية إلى وجود هذه الإدارة الحكومية التي باتت تعاني من ترهل كبير في عملها بسبب تعدد أذرعها الاستخباراتية والوكالات التي تعمل على تجميع وتحليل المعلومات التي يتم جمعها حول العالم، إما عن طريق الجواسيس المزروعين هناك أو عن طريق أجهزة تجسس فضائية متطورة.
كما لا توجد أية إشارات تدل على وجود المباني التابعة للوكالة في مختلف الولايات الأمريكية، لكنها كلها تخضع لنفس إجراءات الحراسة المشددة التي يخضع لها المقر المركزي الواقع على حدود العاصمة واشنطن، كما يحظى الجواسيس العاملون وراء تلك الأسوار العالية بحماية مشددة، بالإضافة إلى «حماية» إلكترونية متطورة تشمل أجهزة اتصالاتهم وحواسيبهم المحمولة وجميع الأجهزة التقنية التي يستعملونها في عملهم الاستخباراتي.
بيروقراطية تهدد الأمن القومي
خلف الأسوار العالية، المحصنة بمواد مضادة للصواريخ والمزروعة بالكاميرات، لمباني أجهزة الاستخبارات الحكومية ومباني الشركات الخاصة المتعاقدة مع الحكومة الأمريكية يقبع عشرات الآلاف من الموظفين الذين يراقبون العالم عبر أقمار اصطناعية متطورة للغاية وأجهزة تجسس عالية التقنية يحتكرون استعمالها، كما يعكفون على وضع وتحيين سيناريوهات الحرب التي تشنها واشنطن على الإرهاب حول العالم وبسببها تخوض حربا غير عادلة ولا إنسانية في أفغانستان وتشن ضربات جوية على المنطقة الحدودية مع باكستان، كما تحارب مقاتلي تنظيم القاعدة في العراق، بعدما أطاحت بنظام صدام حسين بدعوى زائفة هي تطويره لأسلحة دمار شامل..
ويقوم موظفو وكالة الاستخبارات الأمريكية والشركات المتعاقدة معها بالاطلاع على عشرات الآلاف من التقارير التي تصلهم من عملائهم في مختلف أنحاء العالم، ثم تحليلها وتصنيفها حسب الأهمية والخطورة وكتابة خلاصات أو توصيات عن تلك التقارير قبل أن يتولي «جيش» آخر من الموظفين الحكوميين أو المتعاقدين مع الحكومة بالإطلاع عليها ومقارنتها ببعض المعلومات الواردة في التقارير الأصلية ثم تحيينها قبل كتابة خلاصات أو توصيات عنها.. وهكذا يقوم أشخاص مختلفون بنفس الوظيفة لكن في فترات زمنية مختلفة وحسب تراتبية إدارية وبيروقراطية قاتلة، تؤخر في بعض الأحيان وصول المعلومات الاستخباراتية «الثمينة» إلى الجهة المناسبة في الوقت المناسب.
بقلم رشيد نيني
وأقنعا الأمريكيين بضرورة إعطاء بطاقة بيضاء لوكالة الاستخبارات الأمريكية من أجل ملاحقة «أعداء أمريكا» حول العالم.
وهكذا لم تبخل الإدارة الأمريكية على أجهزة الاستخبارات من الناحية المادية ومدتها بملايير الدولارات من أجل تجنيد الجواسيس في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ووسط آسيا، بالإضافة إلى مختلف مناطق العالم، كما سيّجتها بترسانة قانونية صلبة سمحت لها بإبقاء أنشطتها بعيدا عن أعين الشعب وأجهزة الرقابة. لكن، وبعد مرور نحو عشر سنوات على الهجمات، كشف تحقيق صحفي لجريدة «واشنطن بوست» أن الحرب على الإرهاب ترهلت وأن الإدارات والمنظمات المسؤولة عن هذا الملف تناسلت وتشابكت خيوطها وتداخلت تخصصاتها بشكل بات يهدد أمن الولايات المتحدة بشكل خطير.
«أنت تعتقد بأنك تعرف أمريكا، لكنك لا تعرف العالم السري لأمريكا. بالنسبة للجميع هناك ثلاثة فروع رئيسية للسلطة في أمريكا تتوزع بين البيت الأبيض والكونغرس والمحكمة العليا، لكن بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر ظهر فرع رابع ولكنه ظل سريا للغاية وبعيدا عن أعين الشعب الأمريكي ورقابته.. إنه العالم السري الجديد للمخابرات». بهذه المقدمة المصورة بالفيديو يستقبلك موقع صحيفة «واشنطن بوست» قبل أن يسمح لك بالدخول إلى مواد التحقيق المطول الذي أجراه الصحفيان «وليام أركن» و«دانا بريست» اللذان قضيا سنتين كاملتين في دواليب أجهزة الاستخبارات الأمريكية من أجل محاولة فهم كيفية عملها وحصر مكاتبها وعدد الشركات الخاصة التي تتعاقد معها. لكن الصحفيين أكدا، في مقابلات صحفية متعددة بعد نشر التحقيق، أنهما أصيبا بصدمة مريعة بعدما اطلعا عن قرب على الترهل الكبير الذي باتت تعاني منه أجهزة الاستخبارات الأمريكية ومن تداخل تخصصات الإدارات الحكومية المسؤولة عن قطاع الأمن القومي مع الشركات الخاصة التي تم إنشاؤها على مقاس متطلبات وزارة الدفاع «البنتاغون» والتي تناسلت بدورها وفاق عددها عشرات المئات.
75 مليار دولار للجواسيس!
بعد مرور تسعة أيام على هجمات نيويورك وواشنطن، وبعدما استفاقت أمريكا من هول الصدمة واستوعبت جيدا ما وقع، اجتمع جنرالات البنتاغون بصقور الإدارة الأمريكية السابقة واتخذوا قرارا بتخصيص 40 مليار دولار بشكل عاجل لوكالة الاستخبارات الأمريكية من أجل مساعدتها على الدخول في حرب وصفوها بالمقدسة ضد أعضاء تنظيم «القاعدة» والإرهابيين حول العالم. هذا المبلغ الكبير جاء إضافة إلى الميزانية الفيدرالية المخصصة عادة للدفاعات الداخلية.
بعد مرور سنة واحدة فقط، أي خلال سنة 2002، عمدت الإدارة الأمريكية السابقة إلى إضافة مبلغ 36.5 مليار دولار ورفعته إلى 44 مليار دولار سنة 2003، واستمرت الزيادات الضخمة في ميزانية وكالة الاستخبارات الأمريكية حتى اليوم وباتت توازي 75 مليارا سنويا تذهب لتطوير قدرات الجواسيس والصرف على العمليات بالغة السرية التي ينفذونها حول العالم لصالح الإدارة الأمريكية.
وبسبب هذا التدفق غير المسبوق للسيولة المالية، عمدت وكالة الاستخبارات إلى تأسيس وكالات مختلفة للأمن القومي ومكافحة الإرهاب وتدريب الجواسيس واستقطابهم وجمع المعلومات، حيث أسست الوكالة 24 مؤسسة جديدة نهاية سنة 2002 و36 خلال سنة 2003 وأكثر من 26 مؤسسة جديدة في مجال مكافحة الإرهاب سنة 2004 و31 مؤسسة سنة 2007 و32 سنة 2008 و20 مؤسسة جديدة سنة 2009. ويقول خبراء في مجال الاستخبارات إن عدد المؤسسات التي تعمل في مجال التجسس وجمع المعلومات ومكافحة الإرهاب وصل حاليا إلى 263 مؤسسة، وجميعها تقريبا تبحث بشكل يائس عن أشخاص من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ووسط آسيا يتحدثون اللغات المحلية لسكان تلك المناطق ويفهمون ثقافتهم من أجل تحليل ملايين الوثائق والشرائط الصوتية التي تم جمعها خلال سنوات الحرب على الإرهاب مقابل أجور خيالية تصل أحيانا إلى 250 ألف دولار في السنة!
كما أكد خبراء عسكريون أن مبلغ 75 مليارا المخصص لوكالة الاستخبارات الأمريكية سيستمر في الارتفاع، لأن أسباب الحرب على الإرهاب مازالت قائمة ويعطون كأدلة على كلامهم الهجمات الفاشلة التي تعرضت لها أمريكا خلال الشهور والسنوات الأخيرة. ويقول هؤلاء الخبراء إن النصيب الأكبر من هذه الميزانية الضخمة سيخصص لتمويل أعمال التجسس وجمع وتحليل المعلومات واستقطاب وتدريب الجواسيس ومراقبة الأشخاص المشتبه في ضلوعهم في أعمال معادية لمصالح الولايات المتحدة حول العالم.
تضخم وبيروقراطية
الحاجة إلى مثل هذه العمليات التجسسية عالية التقنية والكلفة خلقت نوعا من الهاجس لدى المسؤولين في الإدارة الأمريكية، مفاده أن مطاردة ومراقبة الإرهابيين و«أعداء أمريكا» حول العالم تتطلب المزيد من الأموال والأشخاص المؤهلين، وهكذا تم فتح الباب أمام القطاع الخاص من أجل المساعدة على الانتصار في الحرب الأمريكية على الإرهاب. وبسبب هذا القرار تناسلت عشرات المئات من الشركات الخاصة العاملة في مجال توفير الأمن الخاص وتقصي المعلومات وتحليلها حتى بلغ عددها 1931 شركة خاصة حاليا، أشهرها على الإطلاق شركة «بلاكوُوتر» التي تورطت في عمليات قتل وتصفية لمدنيين عراقيين في العاصمة بغداد وأنحاء متفرقة من البلاد.
لكن توفير الحماية للمواكب الرسمية والشخصيات السياسية والدبلوماسية ليست هي المهمة الوحيدة لهذه الشركة وغيرها من الشركات التي استفادت من فورة الحرب على الإرهاب والحماس الزائد الذي عبرت عنه الإدارة الأمريكية في هذا الشأن، فتنظيم عمليات تجسس بشكل واسع واستقطاب العملاء وتهريب الوثائق السرية وشراء ذمم المسؤولين الحكوميين في مناطق الصراع.. كلها أمور تدخل ضمن صميم عمل هذه الشركات التي باتت تنافس أجهزة الحكومة الرسمية في هذا المجال، وبات عدد العاملين لديها يفوق 250 ألف متعاقد مع الحكومة الأمريكية، وهو جيش سري لا يعرف عنه دافعو الضرائب الشيء الكثير ويتمتع بصلاحيات واسعة تمكنه من القيام بأمور خارجة عن القانون فوق أراض أجنبية.
ومن أبرز الأعمال التي قام بها المتعاقدون أو «الكونتاكترز» لصالح الحكومة الأمريكية هو قيامهم بخطف شخص مطلوب للاستخبارات الأمريكية من شوارع إيطاليا، كما شاركوا في عمليات استجواب معتقلين كانوا محتجزين في سجون سرية في خارج الولايات المتحدة ووفروا الحماية لمنشقين كانوا مختبئين في ضواحي واشنطن، كما يعكفون حاليا على تدريب وتشكيل جيل جديد من الجواسيس الأمريكيين وتعليمهم «أصول الحرفة».
وصرح مدير الاستخبارات الأمريكية ليون بانيتا لصحيفة «واشنطن بوست» بأن الوكالة تعتزم استبدال «جيش» المتعاقدين الذين يقومون بالعمل الميداني الذي كان ينبغي أن يقوم به الموظفون الدائمون في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. لكن رئيس جواسيس أمريكا أكد أن عملية استبدال هذا «الجيش» من الأشخاص لن تحدث بين عشية وضحاها، خصوصا وأن الوكالة اعتمدت عليهم لفترة طويلة وعليها أن تستفيد من الخبرة التي اكتسبوها خلال سنوات عملهم الطويلة. وأورد تحقيق «واشنطن بوست» أن عدد الأشخاص الذين يحملون تصاريح أمنية بالغة السرية أو ما يسمى في أمريكا بـ«توب سيكرت سيكيوريتي كليرنس»، تمكنهم من ولوج الأماكن بالغة السرية والاطلاع على وثائق وتقارير سرية، وصل حاليا إلى 854 ألفا، أكثر من 250 ألفا منهم يعملون لصالح القطاع الخاص وليس لصالح وكالات فيدرالية حكومية.
جواسيس وراء الأسوار العالية
في حي راق يقع على حدود مدينة «ماكلين» في ولاية فرجينيا، يقع المبنى الرئيسي لوكالة الاستخبارات الأمريكية الذي يسمى «لانغلي» نسبة إلى اسم المنطقة التي يقع فيها وهي منطقة محظور الاقتراب منها وكل من أضاع طريقه ووصل إلى هذه البقعة المختفية وراء أحراش كثيفة وأشجار باسقة، يفاجأ بعدد من الجنود الملثمين الذين يخرجون من خلف الأشجار شاهرين أسلحة رشاشة ومتحفزين لإطلاق النار.
موقع وكالة الاستخبارات غير موجود على الخريطة ولا يمكن العثور عليه عبر خدمة «غوغل ماب» وهو ضخم للغاية يستوعب يوميا أكثر من 1700 موظف فيدرالي و1200 متعاقد خاص يعملون فيه وفي «ليبرتي كروسينغ»، اللقب الرسمي لمقر الاستخبارات الوطنية ومركز مكافحة الإرهاب، والاثنان يحظيان بحماية قوات متعددة من أفراد الشرطة وعدد كبير من كلاب الحراسة والآلاف من المساحات المخصصة الشاسعة المكشوفة والمراقبة بشكل دقيق للغاية.
ولا تشير أي من إشارات المرور المعلقة في الشوارع المؤدية إلى مبنى الاستخبارات الأمريكية إلى وجود هذه الإدارة الحكومية التي باتت تعاني من ترهل كبير في عملها بسبب تعدد أذرعها الاستخباراتية والوكالات التي تعمل على تجميع وتحليل المعلومات التي يتم جمعها حول العالم، إما عن طريق الجواسيس المزروعين هناك أو عن طريق أجهزة تجسس فضائية متطورة.
كما لا توجد أية إشارات تدل على وجود المباني التابعة للوكالة في مختلف الولايات الأمريكية، لكنها كلها تخضع لنفس إجراءات الحراسة المشددة التي يخضع لها المقر المركزي الواقع على حدود العاصمة واشنطن، كما يحظى الجواسيس العاملون وراء تلك الأسوار العالية بحماية مشددة، بالإضافة إلى «حماية» إلكترونية متطورة تشمل أجهزة اتصالاتهم وحواسيبهم المحمولة وجميع الأجهزة التقنية التي يستعملونها في عملهم الاستخباراتي.
بيروقراطية تهدد الأمن القومي
خلف الأسوار العالية، المحصنة بمواد مضادة للصواريخ والمزروعة بالكاميرات، لمباني أجهزة الاستخبارات الحكومية ومباني الشركات الخاصة المتعاقدة مع الحكومة الأمريكية يقبع عشرات الآلاف من الموظفين الذين يراقبون العالم عبر أقمار اصطناعية متطورة للغاية وأجهزة تجسس عالية التقنية يحتكرون استعمالها، كما يعكفون على وضع وتحيين سيناريوهات الحرب التي تشنها واشنطن على الإرهاب حول العالم وبسببها تخوض حربا غير عادلة ولا إنسانية في أفغانستان وتشن ضربات جوية على المنطقة الحدودية مع باكستان، كما تحارب مقاتلي تنظيم القاعدة في العراق، بعدما أطاحت بنظام صدام حسين بدعوى زائفة هي تطويره لأسلحة دمار شامل..
ويقوم موظفو وكالة الاستخبارات الأمريكية والشركات المتعاقدة معها بالاطلاع على عشرات الآلاف من التقارير التي تصلهم من عملائهم في مختلف أنحاء العالم، ثم تحليلها وتصنيفها حسب الأهمية والخطورة وكتابة خلاصات أو توصيات عن تلك التقارير قبل أن يتولي «جيش» آخر من الموظفين الحكوميين أو المتعاقدين مع الحكومة بالإطلاع عليها ومقارنتها ببعض المعلومات الواردة في التقارير الأصلية ثم تحيينها قبل كتابة خلاصات أو توصيات عنها.. وهكذا يقوم أشخاص مختلفون بنفس الوظيفة لكن في فترات زمنية مختلفة وحسب تراتبية إدارية وبيروقراطية قاتلة، تؤخر في بعض الأحيان وصول المعلومات الاستخباراتية «الثمينة» إلى الجهة المناسبة في الوقت المناسب.
بقلم رشيد نيني