ربما لم يسمع الكثيرون اليوم بفلم طارد الأرواح الشريرة (The Exorcist ) .. لكن في زمانه، أي عام 1973، تسبب هذا الفلم بحالة من الهستيريا الجماعية، فأصيب العديد من مشاهديه بالأرق لعدة ليالي، وصار الكثير منهم يتخوفون من الجلوس لوحدهم! ويقال إن سيارات الإسعاف كانت تنتظر خارج صالات السينما لإسعاف حالات الإغماء المتكررة التي كانت تحدث بين الجمهور أثناء عرض الفلم.
كان الفلم مخيفا إلى درجة أن بعض النقاد اعتبروه الأكثر رعبا في تاريخ السينما، وهو لازال يتفوق حتى اليوم – المرتبة الثالثة - على العديد من أفلام الرعب الحديثة المليئة بالمؤثرات البصرية والصوتية الخرافية التي أتاحها الحاسوب لمخرجي أفلام هذه الأيام. وقد زاد من شهرة الفلم انتشار إشاعات حول وجود لعنة وأحداث غريبة رافقت تصويره، حيث يقال بأن تسعة من كادر العمل ماتوا في ظروف غامضة، كما تعرض المنزل الذي كان يجري تصوير مشاهد الفلم داخله إلى حريق هائل أحاله إلى ركام.
ورغم إن الفلم تم منعه من العرض في الكثير من البلدان إلا إن ذلك لم يمنعه من اكتساح صالات العرض والتربع على عرش "الفلم الأكثر تحقيقا للإيرادات في التاريخ" لمدة سنة كاملة حتى أزاحه عن الصدارة فلم "الفك المفترس" الشهير عام 1974. كما فاز الفلم بجائزتي اوسكار – أفضل صوت وأفضل سيناريو – وبأربع جوائز في مسابقة الغولدن كلوب.
قصة الفلم – باختصار شديد - تتمحور حول فتاة أمريكية في الثانية عشر من العمر تدعى ريجان (Linda Blair ) فجأة تطرأ تغيرات محورية على تصرفاتها، فيصبح صوتها أكثر خشونة وتظهر علامات وكتابات غريبة على جسدها وتصبح لديها قدرات خارقة تمكنها من تحريك الأشياء ورفعها في الهواء من دون لمسها. هذه التغيرات الغامضة تثير مخاوف عائلتها مما يدفعهم إلى ألتماس المساعدة الطبية، لكن الفحوصات تظهر سلامة جسد وعقل الفتاة من أي داء، ومع هذا تسوء حال ريجان باضطراد وتزداد تصرفاتها غرابة يوما بعد أخر مما يدفع عائلتها في النهاية إلى طلب المساعدة الروحية.
يقوم عدد من القساوسة بفحص الفتاة ويستنتجون بأنها أصيبت بمس شيطاني ويحصلون على إذن من الكنيسة لإقامة طقوس طرد الأرواح الشريرة من جسدها.
جلسات طرد الأرواح الشريرة لن تكون سهلة وستشهد أحداثا دموية وأمورا مرعبة لن نسهب في ذكرها لكي لا نحرمك متعة مشاهدة الفلم عزيزي القارئ.
القصة الحقيقية
في عام 1949 نشرت الجرائد الأمريكية عدة مقالات وتقارير حول قيام بعض القساوسة بإجراء جلسات ناجحة لطرد الأرواح الشريرة من جسد فتى في الرابعة عشر من العمر يدعى رونالد (Roland Doe ) – وهناك مصادر أخرى أطلقت عليه أسم روبي (Robbie Mannheim ) - وفي الواقع لا يعلم احد على وجه الدقة الاسم الحقيقي للفتى لأن الكنيسة تكتمت على جميع معلوماته الشخصية، أما تفاصيل القضية فقد أتت من مصادر ثانوية، أي من قبل القساوسة الذين شاركوا في طقوس طرد الروح الشريرة من جسد الفتى.
التقارير الصحفية حول الفتى أثارت فضول الكثير من الناس، وكان احد هؤلاء الذين استثارتهم القصة إلى حد الهوس هو الكاتب الأمريكي من أصل لبناني وليم بيتر بلاتي (William Peter Blatty )، والذي دفعه حماسه إلى أجراء تحقيقاته الخاصة عن القضية، وقد تكللت جهوده بالحصول على نسخة من يوميات احد القساوسة الذين شاركوا في طرد الروح الشريرة من جسد الفتى، وأتاحت هذه اليوميات لبلاتي فرصة كتابة روايته الشهيرة "The Exorcist " التي نشرها في أمريكا عام 1971 فحققت نجاحا منقطع النظير وتصدرت قائمة أكثر الكتب مبيعا لسنة كاملة، وقد كان هذا النجاح دافعا قويا لتحويل الرواية إلى فلم سينمائي.
في الرواية قام بلاتي بتغيير بعض تفاصيل القصة الحقيقية، فتحول الفتى رونالد إلى فتاة تدعى ريجان، كما أضيفت بعض الأحداث الخيالية لإضفاء المزيد من الإثارة؛ وهنا ينبغي أن ننوه مرة أخرى بأن بلاتي لم يتمكن من مقابلة الفتى رونالد، لكن أقرب نقطة أستطاع بلوغها فيما يخص القضية كانت حديثه مع القس وليم بوديرن قبل موته، وهذا القس كان هو الذي ترأس جلسات طرد الأرواح، وقد أكد لبلاتي بأن القصة حقيقية لكنه رفض بشكل قاطع الإدلاء بأي معلومات يمكن أن تقود للكشف عن شخصية الفتى.
على العموم، وبناء على المعلومات المتاحة، فأن الفتى رونالد هو من مواليد عام 1935، وهو الطفل الوحيد لعائلته التي كانت تسكن في إحدى مدن ولاية ماريلاند الأمريكية.
كن رونالد متعلقا بخالته هارييت التي كانت تسكن في مدينة سانت لويس بولاية ميزوري، هذه الخالة الغريبة الأطوار كانت تعمل وسيطة روحية في جلسات تحضير الأرواح، وفي إحدى زياراتها قامت بإهداء لوح ويجا – لوح عليه حروف وأرقام يستخدم للاتصال بأرواح الموتى – لرونالد وعلمته كيف يستخدمه للتواصل مع أشباح العالم الآخر، ويعتقد البعض بأن هذا اللوح كان هو سبب البلاء الذي حل بالفتى فيما بعد.
في 26 كانون الثاني / يناير عام 1949 ماتت العمة هارييت بصورة مفاجئة وغامضة في سن الرابعة والخمسين، ويقال بأن الفتى رونالد حاول الاتصال بروحها عن طريق لوح الويجا، ولم تمض سوى عدة ليال حتى بدئت عائلة رونالد تسمع طرقات وخربشة مزعجة تصدر عن جدران المنزل، في البداية ظنوا بأنها أصوات بعض القوارض والحشرات، لكنهم لم يستطيعوا العثور على أي من هذه المخلوقات. ثم صارت العائلة تسمع صوت خطوات خفية تتجول داخل المنزل من دون أن يستطيعوا تحديد مصدرها. ولم تلبث أن تطورت الأمور فأخذت قطع أثاث المنزل تتحرك من تلقاء نفسها! والمزهريات تحلق في الهواء من دون أن يمسها احد!. وأخذت الكوابيس تقض مضجع رونالد وأصوات غريبة تصدر عن سريره كأنما هناك من يحاول الزحف داخله. كما لاحظت عائلته بأنه أصبح مضطربا وسريع الغضب، وأرعبهم ظهور خطوط وكلمات مبهمة على أنحاء متفرقة من جسده.
عائلة الفتى طلبت المساعدة من كاهن كنيستهم، الأب لوثر شولتز، أخبروه بأنهم راجعوا العديد من الأطباء والمعالجين النفسيين من اجل علاج أبنهم من دون فائدة، فحسب التقارير الطبية لم يكن رونالد يشكو من أي عارض صحي، لكن مع هذا استمرت حالته بالتدهور يوما بعد الأخر.
الأب شولتز طلب من والدي رونالد أن يتركوه معه في المنزل لعدة ليال لكي يتمكن من فحصه ومعاينة حالته بدقة. وقد تحولت تلك الليالي إلى كابوس حقيقي لم يفارق ذاكرة الأب شولتز حتى أخر يوم في حياته، ففي الليلة الأولى وبعد أن خلد الجميع إلى أسرتهم، ارتفعت فجأة همهمة مبهمة وبدء سرير الفتى يهتز بعنف ثم أخذت بعض قطع الأثاث تتحرك من تلقاء نفسها .. احد الكراسي أرتفع في الهواء وراح يدور حول فراش الفتى ضاربا وجوه جميع الموجودين في الغرفة!.
تلك الليلة المرعبة جعلت الأب شولتز موقنا بأن يدا شيطانية خفية تقف وراء جميع الأحداث الغريبة التي لاحقت الفتى لعدة أسابيع، وأن الطريقة الوحيدة لتخليصه من معاناته هي إجراء طقوس معينة لطرد الشر من جسده.
عائلة رونالد، وبنصيحة من الأب شولتز، قامت بعرض الفتى على كاهن أخر يدعى الأب ادوارد هيوز، وقد حدثت أمور غريبة أثناء مقابلته، ففجأة أصبح جو الغرفة شديد البرودة، وبدأ الفتى يتكلم بصوت أجش بلغة غامضة لم يفقهوا شيئا منها. وقد كانت تلك الأمور كافية لإقناع الأب هيوز بأن روحا شريرة تتحكم في جسد الفتى وان السبيل الوحيد لتخليصه منها هي إجراء طقوس معينة لطردها. وقد أجرى الأب هيوز تلك الطقوس فعلا في قبو مستشفى جامعة جورج تاون، لكن رونالد أصبح عنيفا إلى أبعد الحدود فراح يبصق على الأب هيوز ويكيل له أقذع الشتائم، ثم استطاع بطريقة ما من تحرير نفسه من القيود التي كانت تثبته إلى السرير ووجه ضربة قوية للأب هيوز بسلسلة حديدية أصابته في كتفه وطرحته أرضا مما أستدعى أخراجه من الغرفة لتلقي العلاج. وقد تطلب جرحه الغائر أكثر من مائة غرزه لتقطيبه أما الفتى فقد هدأ تماما بعد أن ابعدوا الأب هيوز ولم يعد يتذكر شيئا عما جرى.
رونالد عاد إلى المنزل برفقة والديه واستمرت حالته بالتدهور حتى زاره في احد الأيام القس وليم بوديرن برفقة رجل دين أخر وشاهدا الأمور الغريبة التي تحدث معه، كالأصوات الغامضة والرموز المبهمة على جسده وتحرك قطع الأثاث من تلقاء نفسها، وقد رفع القسان تقريرا عن حالة الفتى إلى الأسقف المسئول عنهما والذي وافق على إجراء جلسات جديدة لطرد الروح الشريرة في إحدى المستشفيات الدينية.
تم نقل رونالد إلى المستشفى، وبدء ثلاثة قساوسة برئاسة الأب بوديرن يتهيئون لإجراء الطقوس. الجلسة الأولى كانت عنيفة اهتز خلالها سرير الفتى بعنف وظهرت على جسده عبارات مثل "شر" و "جحيم"، وراح يكيل الشتائم والسباب للقساوسة كما تمكن من توجيه ضربة قوية مباغتة كسرت انف احدهم. وبحسب اليوميات التي سجلها الأب بوديرن فأن عملية طرد الروح الشريرة من جسد الفتى تطلبت ثلاثين جلسة على مدى شهرين، وقد زعم الرجل في يومياته بأن الجميع سمعوا خلال الجلسة الأخيرة صوتا مدويا كهدير الرعد يصدر عن جسد الفتى، صوت ارتجت له جنبات المستشفى ثم ساد السكون وفتح الفتى عينيه هامسا : "لقد انتهى! .. لقد انتهى!".
الفتى رونالد عاد لطبيعته، ولم يعد يتذكر أي شيء عن قضية الروح الشريرة وتلبسها بجسده. وبحسب بعض المصادر فأنه كبر ليصبح رجلا ناجحا وعاش ما تبقى من حياته بسلام وسعادة مع زوجته وأطفاله ...
لكن هل انتهت القصة هنا؟.
كلا بالطبع، فرغم شهرة ونجاح فلم "طارد الأرواح الشريرة" لكنه لم ينجو بالتأكيد من المشككين في ادعاء مؤلفه وليم بلاتي من أن قصته مستوحاة عن قصة حقيقية، فكما قلنا سابقا، مصادر المؤلف كانت ثانوية، فهو لم يقابل الفتى رونالد ولا أي شخص من عائلته، وكانت أقوال القساوسة متضاربة حول حقيقة ما جرى. فمثلا لا يوجد أبدا ما يثبت بأن الأب هيوز أجرى طقسا لطرد الروح الشريرة من جسد الفتى في مستشفى جامعة جورج تاون، ولا يوجد في سجلات المستشفى أي شيء يثبت بأن الأب هيوز أصيب خلال تلك الطقوس وتلقى علاجا.
الأب هالوران الذي كان احد القساوسة الثلاثة الذين أجروا جلسات طرد الأرواح الأخيرة للفتى، قال بأنه لم يشاهد شيئا خارقا للمألوف أثناء تلك الجلسات، لا أثاث يتحرك من تلقاء نفسه ولا أواني تطير في الهواء ولا علامات وكتابات مبهمة تظهر وتختفي على جسد الفتى .. في الحقيقة كان الفتى يبكي ويصرخ ويتقيأ أحيانا، وهذه كلها أمور طبيعية يمكن تفسيرها، أما النبرة المخيفة والصوت الأجش فالأب هالوران كان موقنا بأن الفتى كان قادرا على إصدار هكذا أصوات بنفسه. وبالنسبة للكلمات اللاتينية التي زعموا بأن الفتى كان يلعن ويشتم بها، فالأب هالوران اعتقد بأن الفتى كان يعيد تكرار الكلمات التي كان الأب بوديرن يرددها أثناء تلاوة النصوص الدينية.
الصحفي الأمريكي مارك اوبسسنك (Mark Opsasnick )كان من أشد المشككين في قصة الفتى رونالد، وقد أجرى تحقيقاته الخاصة حول القضية، وتوصل في النهاية إلى إن رونالد كان مجرد فتى مراهق يمر بمرحلة حرجة من حياته، وانه تقمص ببراعة دور الممسوس لجلب الاهتمام إليه، أما ما أشيع حول قدراته الخارقة فقد كانت مبالغات وخرافات ضخمها الناس ولا يوجد أبدا ما يثبت حدوثها.
الأطباء النفسيين لهم رأي أيضا في القضية، فهم يعتقدون بأن جميع تصرفات الفتى رونالد يمكن تفسيرها علميا وان حالته بأكملها لا تعدو كونها حالة نفسية.
على العموم، وأيا ما كانت حقيقة القصة، يبقى فلم "طارد الأرواح الشريرة" عملا رائعا يستحق أن تشاهده عزيزي القارئ برفقة العائلة أو الأصدقاء ..
كان الفلم مخيفا إلى درجة أن بعض النقاد اعتبروه الأكثر رعبا في تاريخ السينما، وهو لازال يتفوق حتى اليوم – المرتبة الثالثة - على العديد من أفلام الرعب الحديثة المليئة بالمؤثرات البصرية والصوتية الخرافية التي أتاحها الحاسوب لمخرجي أفلام هذه الأيام. وقد زاد من شهرة الفلم انتشار إشاعات حول وجود لعنة وأحداث غريبة رافقت تصويره، حيث يقال بأن تسعة من كادر العمل ماتوا في ظروف غامضة، كما تعرض المنزل الذي كان يجري تصوير مشاهد الفلم داخله إلى حريق هائل أحاله إلى ركام.
ورغم إن الفلم تم منعه من العرض في الكثير من البلدان إلا إن ذلك لم يمنعه من اكتساح صالات العرض والتربع على عرش "الفلم الأكثر تحقيقا للإيرادات في التاريخ" لمدة سنة كاملة حتى أزاحه عن الصدارة فلم "الفك المفترس" الشهير عام 1974. كما فاز الفلم بجائزتي اوسكار – أفضل صوت وأفضل سيناريو – وبأربع جوائز في مسابقة الغولدن كلوب.
قصة الفلم – باختصار شديد - تتمحور حول فتاة أمريكية في الثانية عشر من العمر تدعى ريجان (Linda Blair ) فجأة تطرأ تغيرات محورية على تصرفاتها، فيصبح صوتها أكثر خشونة وتظهر علامات وكتابات غريبة على جسدها وتصبح لديها قدرات خارقة تمكنها من تحريك الأشياء ورفعها في الهواء من دون لمسها. هذه التغيرات الغامضة تثير مخاوف عائلتها مما يدفعهم إلى ألتماس المساعدة الطبية، لكن الفحوصات تظهر سلامة جسد وعقل الفتاة من أي داء، ومع هذا تسوء حال ريجان باضطراد وتزداد تصرفاتها غرابة يوما بعد أخر مما يدفع عائلتها في النهاية إلى طلب المساعدة الروحية.
يقوم عدد من القساوسة بفحص الفتاة ويستنتجون بأنها أصيبت بمس شيطاني ويحصلون على إذن من الكنيسة لإقامة طقوس طرد الأرواح الشريرة من جسدها.
جلسات طرد الأرواح الشريرة لن تكون سهلة وستشهد أحداثا دموية وأمورا مرعبة لن نسهب في ذكرها لكي لا نحرمك متعة مشاهدة الفلم عزيزي القارئ.
القصة الحقيقية
في عام 1949 نشرت الجرائد الأمريكية عدة مقالات وتقارير حول قيام بعض القساوسة بإجراء جلسات ناجحة لطرد الأرواح الشريرة من جسد فتى في الرابعة عشر من العمر يدعى رونالد (Roland Doe ) – وهناك مصادر أخرى أطلقت عليه أسم روبي (Robbie Mannheim ) - وفي الواقع لا يعلم احد على وجه الدقة الاسم الحقيقي للفتى لأن الكنيسة تكتمت على جميع معلوماته الشخصية، أما تفاصيل القضية فقد أتت من مصادر ثانوية، أي من قبل القساوسة الذين شاركوا في طقوس طرد الروح الشريرة من جسد الفتى.
التقارير الصحفية حول الفتى أثارت فضول الكثير من الناس، وكان احد هؤلاء الذين استثارتهم القصة إلى حد الهوس هو الكاتب الأمريكي من أصل لبناني وليم بيتر بلاتي (William Peter Blatty )، والذي دفعه حماسه إلى أجراء تحقيقاته الخاصة عن القضية، وقد تكللت جهوده بالحصول على نسخة من يوميات احد القساوسة الذين شاركوا في طرد الروح الشريرة من جسد الفتى، وأتاحت هذه اليوميات لبلاتي فرصة كتابة روايته الشهيرة "The Exorcist " التي نشرها في أمريكا عام 1971 فحققت نجاحا منقطع النظير وتصدرت قائمة أكثر الكتب مبيعا لسنة كاملة، وقد كان هذا النجاح دافعا قويا لتحويل الرواية إلى فلم سينمائي.
في الرواية قام بلاتي بتغيير بعض تفاصيل القصة الحقيقية، فتحول الفتى رونالد إلى فتاة تدعى ريجان، كما أضيفت بعض الأحداث الخيالية لإضفاء المزيد من الإثارة؛ وهنا ينبغي أن ننوه مرة أخرى بأن بلاتي لم يتمكن من مقابلة الفتى رونالد، لكن أقرب نقطة أستطاع بلوغها فيما يخص القضية كانت حديثه مع القس وليم بوديرن قبل موته، وهذا القس كان هو الذي ترأس جلسات طرد الأرواح، وقد أكد لبلاتي بأن القصة حقيقية لكنه رفض بشكل قاطع الإدلاء بأي معلومات يمكن أن تقود للكشف عن شخصية الفتى.
على العموم، وبناء على المعلومات المتاحة، فأن الفتى رونالد هو من مواليد عام 1935، وهو الطفل الوحيد لعائلته التي كانت تسكن في إحدى مدن ولاية ماريلاند الأمريكية.
كن رونالد متعلقا بخالته هارييت التي كانت تسكن في مدينة سانت لويس بولاية ميزوري، هذه الخالة الغريبة الأطوار كانت تعمل وسيطة روحية في جلسات تحضير الأرواح، وفي إحدى زياراتها قامت بإهداء لوح ويجا – لوح عليه حروف وأرقام يستخدم للاتصال بأرواح الموتى – لرونالد وعلمته كيف يستخدمه للتواصل مع أشباح العالم الآخر، ويعتقد البعض بأن هذا اللوح كان هو سبب البلاء الذي حل بالفتى فيما بعد.
في 26 كانون الثاني / يناير عام 1949 ماتت العمة هارييت بصورة مفاجئة وغامضة في سن الرابعة والخمسين، ويقال بأن الفتى رونالد حاول الاتصال بروحها عن طريق لوح الويجا، ولم تمض سوى عدة ليال حتى بدئت عائلة رونالد تسمع طرقات وخربشة مزعجة تصدر عن جدران المنزل، في البداية ظنوا بأنها أصوات بعض القوارض والحشرات، لكنهم لم يستطيعوا العثور على أي من هذه المخلوقات. ثم صارت العائلة تسمع صوت خطوات خفية تتجول داخل المنزل من دون أن يستطيعوا تحديد مصدرها. ولم تلبث أن تطورت الأمور فأخذت قطع أثاث المنزل تتحرك من تلقاء نفسها! والمزهريات تحلق في الهواء من دون أن يمسها احد!. وأخذت الكوابيس تقض مضجع رونالد وأصوات غريبة تصدر عن سريره كأنما هناك من يحاول الزحف داخله. كما لاحظت عائلته بأنه أصبح مضطربا وسريع الغضب، وأرعبهم ظهور خطوط وكلمات مبهمة على أنحاء متفرقة من جسده.
عائلة الفتى طلبت المساعدة من كاهن كنيستهم، الأب لوثر شولتز، أخبروه بأنهم راجعوا العديد من الأطباء والمعالجين النفسيين من اجل علاج أبنهم من دون فائدة، فحسب التقارير الطبية لم يكن رونالد يشكو من أي عارض صحي، لكن مع هذا استمرت حالته بالتدهور يوما بعد الأخر.
الأب شولتز طلب من والدي رونالد أن يتركوه معه في المنزل لعدة ليال لكي يتمكن من فحصه ومعاينة حالته بدقة. وقد تحولت تلك الليالي إلى كابوس حقيقي لم يفارق ذاكرة الأب شولتز حتى أخر يوم في حياته، ففي الليلة الأولى وبعد أن خلد الجميع إلى أسرتهم، ارتفعت فجأة همهمة مبهمة وبدء سرير الفتى يهتز بعنف ثم أخذت بعض قطع الأثاث تتحرك من تلقاء نفسها .. احد الكراسي أرتفع في الهواء وراح يدور حول فراش الفتى ضاربا وجوه جميع الموجودين في الغرفة!.
تلك الليلة المرعبة جعلت الأب شولتز موقنا بأن يدا شيطانية خفية تقف وراء جميع الأحداث الغريبة التي لاحقت الفتى لعدة أسابيع، وأن الطريقة الوحيدة لتخليصه من معاناته هي إجراء طقوس معينة لطرد الشر من جسده.
عائلة رونالد، وبنصيحة من الأب شولتز، قامت بعرض الفتى على كاهن أخر يدعى الأب ادوارد هيوز، وقد حدثت أمور غريبة أثناء مقابلته، ففجأة أصبح جو الغرفة شديد البرودة، وبدأ الفتى يتكلم بصوت أجش بلغة غامضة لم يفقهوا شيئا منها. وقد كانت تلك الأمور كافية لإقناع الأب هيوز بأن روحا شريرة تتحكم في جسد الفتى وان السبيل الوحيد لتخليصه منها هي إجراء طقوس معينة لطردها. وقد أجرى الأب هيوز تلك الطقوس فعلا في قبو مستشفى جامعة جورج تاون، لكن رونالد أصبح عنيفا إلى أبعد الحدود فراح يبصق على الأب هيوز ويكيل له أقذع الشتائم، ثم استطاع بطريقة ما من تحرير نفسه من القيود التي كانت تثبته إلى السرير ووجه ضربة قوية للأب هيوز بسلسلة حديدية أصابته في كتفه وطرحته أرضا مما أستدعى أخراجه من الغرفة لتلقي العلاج. وقد تطلب جرحه الغائر أكثر من مائة غرزه لتقطيبه أما الفتى فقد هدأ تماما بعد أن ابعدوا الأب هيوز ولم يعد يتذكر شيئا عما جرى.
رونالد عاد إلى المنزل برفقة والديه واستمرت حالته بالتدهور حتى زاره في احد الأيام القس وليم بوديرن برفقة رجل دين أخر وشاهدا الأمور الغريبة التي تحدث معه، كالأصوات الغامضة والرموز المبهمة على جسده وتحرك قطع الأثاث من تلقاء نفسها، وقد رفع القسان تقريرا عن حالة الفتى إلى الأسقف المسئول عنهما والذي وافق على إجراء جلسات جديدة لطرد الروح الشريرة في إحدى المستشفيات الدينية.
تم نقل رونالد إلى المستشفى، وبدء ثلاثة قساوسة برئاسة الأب بوديرن يتهيئون لإجراء الطقوس. الجلسة الأولى كانت عنيفة اهتز خلالها سرير الفتى بعنف وظهرت على جسده عبارات مثل "شر" و "جحيم"، وراح يكيل الشتائم والسباب للقساوسة كما تمكن من توجيه ضربة قوية مباغتة كسرت انف احدهم. وبحسب اليوميات التي سجلها الأب بوديرن فأن عملية طرد الروح الشريرة من جسد الفتى تطلبت ثلاثين جلسة على مدى شهرين، وقد زعم الرجل في يومياته بأن الجميع سمعوا خلال الجلسة الأخيرة صوتا مدويا كهدير الرعد يصدر عن جسد الفتى، صوت ارتجت له جنبات المستشفى ثم ساد السكون وفتح الفتى عينيه هامسا : "لقد انتهى! .. لقد انتهى!".
الفتى رونالد عاد لطبيعته، ولم يعد يتذكر أي شيء عن قضية الروح الشريرة وتلبسها بجسده. وبحسب بعض المصادر فأنه كبر ليصبح رجلا ناجحا وعاش ما تبقى من حياته بسلام وسعادة مع زوجته وأطفاله ...
لكن هل انتهت القصة هنا؟.
كلا بالطبع، فرغم شهرة ونجاح فلم "طارد الأرواح الشريرة" لكنه لم ينجو بالتأكيد من المشككين في ادعاء مؤلفه وليم بلاتي من أن قصته مستوحاة عن قصة حقيقية، فكما قلنا سابقا، مصادر المؤلف كانت ثانوية، فهو لم يقابل الفتى رونالد ولا أي شخص من عائلته، وكانت أقوال القساوسة متضاربة حول حقيقة ما جرى. فمثلا لا يوجد أبدا ما يثبت بأن الأب هيوز أجرى طقسا لطرد الروح الشريرة من جسد الفتى في مستشفى جامعة جورج تاون، ولا يوجد في سجلات المستشفى أي شيء يثبت بأن الأب هيوز أصيب خلال تلك الطقوس وتلقى علاجا.
الأب هالوران الذي كان احد القساوسة الثلاثة الذين أجروا جلسات طرد الأرواح الأخيرة للفتى، قال بأنه لم يشاهد شيئا خارقا للمألوف أثناء تلك الجلسات، لا أثاث يتحرك من تلقاء نفسه ولا أواني تطير في الهواء ولا علامات وكتابات مبهمة تظهر وتختفي على جسد الفتى .. في الحقيقة كان الفتى يبكي ويصرخ ويتقيأ أحيانا، وهذه كلها أمور طبيعية يمكن تفسيرها، أما النبرة المخيفة والصوت الأجش فالأب هالوران كان موقنا بأن الفتى كان قادرا على إصدار هكذا أصوات بنفسه. وبالنسبة للكلمات اللاتينية التي زعموا بأن الفتى كان يلعن ويشتم بها، فالأب هالوران اعتقد بأن الفتى كان يعيد تكرار الكلمات التي كان الأب بوديرن يرددها أثناء تلاوة النصوص الدينية.
الصحفي الأمريكي مارك اوبسسنك (Mark Opsasnick )كان من أشد المشككين في قصة الفتى رونالد، وقد أجرى تحقيقاته الخاصة حول القضية، وتوصل في النهاية إلى إن رونالد كان مجرد فتى مراهق يمر بمرحلة حرجة من حياته، وانه تقمص ببراعة دور الممسوس لجلب الاهتمام إليه، أما ما أشيع حول قدراته الخارقة فقد كانت مبالغات وخرافات ضخمها الناس ولا يوجد أبدا ما يثبت حدوثها.
الأطباء النفسيين لهم رأي أيضا في القضية، فهم يعتقدون بأن جميع تصرفات الفتى رونالد يمكن تفسيرها علميا وان حالته بأكملها لا تعدو كونها حالة نفسية.
على العموم، وأيا ما كانت حقيقة القصة، يبقى فلم "طارد الأرواح الشريرة" عملا رائعا يستحق أن تشاهده عزيزي القارئ برفقة العائلة أو الأصدقاء ..